مذكرات رومانسي... سقطت من حقيبة القنـص
(رواية جهادية)
في شارع الكرادة ببغداد ...
وفي يوم لا يعيبه إلا الهدوء !
ترجل ذلك الشاب الجزائري بمشية متأنية قاصداً مكان ما ككل من حوله.
لا يوجد شيء ملفت للنظر، رائحة عطره المميزة وأناقته البالغة لا تدل أبداً أنه في طريقه لمهمة بالغة التعقيد.
والذي يرى تلك الحقيبة السوداء الأنيقة التي في يده لا يظن أنها صاحبة الدور الرئيسي في هذه المهمة !
فجأة ... وقفت أمامه سيارة "همـر" أمريكية، نزل منها ثلاثة جنود مسلحين ودخلوا أحد المتاجر التي تبيع المخبوزات والحلويات ... أخذوا ما أخذوا ثم خرجوا ووراءهم صاحب المتجر يصيح ويدعو عليهم... لم يلتفتوا إليه وركبوا سيارتهم وانطلقوا بعيداً.
لم يعلق أحد المارة على ما حدث وكأنهم اعتادوا هذا المشهد ! فهو يتكرر كثيراً كل يوم.
عاد ذلك الشاب خطواته مرة أخرى ودخل المتجر فوجد الرجل مازال يبكي... لم يحدثه وإنما توجه للغلام الذي يقف في آخر المتجر وسأله:
- ماذا أخذ هؤلاء الجنود من هنا؟
- أخذوا بعض الحلويات والمخبوزات وسرقوا كل ما في الخزنة
- وكم كان في الخزنة
- أبي يقول مائتان وعشرون ألف دينار
- حسناً... أعطني قطعتين من هذه الحلوى
أخذ الحلوى وأعطى الغلام مائتين وخمسون ألف دينار وقال له:
- أعطهم لوالدك لكن بعدما أمشي أنا من هنا بعشر دقائق.
وتركه وخرج.
أسرع الخطى حتى بَـعُـدَ عن المتجر ثم عاد لمشيته مرة أخرى.
ها هو الآن على مشارف الشارع المطلوب...
دخل الشارع وهو يشعر بنشوة لقرب موعد هوايته المفضلة.
وقعت عيناه على ذلك الشعار الأسود المميز لدولة العراق الإسلامية
"يبدو أن أحدهم رسم الشعار على سور تلك البناية ليبث الأمل في قلب كل موحد يمر من هذا المكان بأن الإسلام قادم لا محالة ... وليبث الرعب في قلب كل من هو أمريكي ومنافق أننا جئناكم بالذبح"
هكذا قال في نفسه
ترقرقت عيناه بالدموع وتحرق صدره شوقاً لليوم الذي يرى فيه هذا الشعار وقد رُفع على البيت الأبيض.
(جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد)
دائماً يذكر نفسه بهذه العبارة لربعي بن عامر ... والتي ترد بإيجاز ووضوح على سؤال نفسه لنفسه: لماذا أنا هنا ؟!
.............
وقف الشاب أمام بناية مهجورة ... أغلبها مهدم ... تأكد أنه لا أحد يلحظه ثم دخل البناية.
لم يغب بالداخل أكثر من دقيقة واحدة حتى خرج من اليمة الأخرى وهو يرتدي ملابس بسيطة تشبه زي الفلاحين أو العمال وفي يده سُـرة كبيرة من القماش.
توجه نحو الفناء الخلفي للبناية وجلس بين جذوع الشجر اليابس هناك، أخرج حقيبته السوداء من السرة ووضعها أمامه وظل يرمقها وهو شارد الذهن...
" هذه أول مرة في حياتي أسمع عن قناص يصيد قناصاً مثله... أنت وحدك يا أبى صقر الذي فعلتها ! "
" عندما أراك تحمل حقيبتك وتخرج في مهمة أشعر أنك ذاهب في رحلة صيد "
" لا يخطئ هدفه "
" نريد أن نهنئ أخانا أبى صقر الجزائري على هذا الإنجاز ... عشرون من حصيلة أربعة وخمسون قتيلاً أمريكياً هذا الشهر كانت من نصيبه وحده بارك الله فيه "
أقوال مدح وثناء... عبارات شكر وامتنان... نظرات دهشة وإعجاب طالما استقبله بها رفقائه وقاداته المجاهديـن، تواردت على مخيلته وازدحمت بها رأسه في هذه اللحظة قبل أن يفتح حقيبـة القنـص.
فتح الحقيبة بهدوء وقبل أن يبدأ بتركيب أجزاء قناصته "الدراجونوف" الروسية تسمرت يداه فجأة وكأنه تذكر شيئاً...
أهذا هو حظي من عملي !!
ألهذا خرجت ؟
لا والله... فإني ما تركت زوجتي وطفلتي وبيتي وبلدي وخسرت دنياي وقطعت المسافات حتى آتي إلى هنا لأخسر آخرتي !
انحدرت دموعه على خديه وهو يدعو:
اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون
بهذه الكلمات جدد نيته وبدأ العمل من جديد.
لم يلحظ -وعيناه مغرورقة بالدموع- تلك الورقة التي حملها الهواء من الحقيبة وطار بها بعيداً...
والتي كانت بخط يده...
[ يقولون أن قلبي لا يعرف طريقاً للحـب
يقولون أن صدري يخلو من العواطف
يقولون أن جسدي لا يفهم لغة الإحساس
يقولون أنني صلب المشاعر
يقولون أنني ميت بين الأحياء
يقولون أنني لست من هذا العالم
يقولون أنني لست رومانسياً !!!
يقولون عني كلاماً كثيراً... اسمع بعضه أحياناً ويصلني -بغير قصد- البعض الآخر، ولكني لم أفكر يوماً ان أرد أو أن أدرء تلك التهم عن نفسي...
فأنا لا أنشغل كثيراً بكلامهم...
وهذا أيضاً مما يقولونه عني؛ أنني لا أراهم في عالمي إلا حين يحتاجونني... أما أنا فلا أحتاجهم.
ولا أخفي أنني لا أحتاج عالمهم في شيء... ولكن للأسف لا تستمر هذه اللحظات طويلاً، وهذا من تقصيري !
نعــم ... فأنا لي عالمي...
هو أوسع وأجمل بكثير
وسوف أبوح لأوراقي ببعض أسراري... ليس رداً على ادعاءاتهم وإنما ليعرف من وراءي أن عالمي الكبير ألذ وأطيب من عالمهم الكئيب
نعم ألــذ ... تعبير اخترته... انتقيته من بين الكلمات لأصف ما أشعر به وأنا في عالمي
فعالمي له طعم... له لون... له رائحة ! ولهذا هو ألـــذ
وأنا بالطبع لن أحاول أن أصف الطعم أو اللون أو الرائحة فهي أشياء لا توصف؛ ليس لأنها من عالمي ولكن لأن الطعم واللون والرائحة أشياء لم يجرب أحد وصفها من قبل ... لأنها ببساطة محسوسات... لابد أن تتذوقها... تراها... تشم عبيرها حتى تدركها حواسك فتحكم عليها بعد ذلك.
فأنا قلبي يتململ من لحظات نومي لأنها تحرمه من ست أو سبع ساعات كاملة من الحب
أما صدري فأنا أشعر به وهو يحاول أن يملئ جنباته بنسمات عالمي الرقيقة
وجسدي المسكين لا ينتشي إلا وقد سهر على حوائج هؤلاء المجاهدين الذين يشاركونني عالمي ... ثم بعد ذلك يوقظني من نومي لموعد لديه في الليل !
فأشعر أنني حي بين الأموات وقد بدأ صدري يجتر نسمات الصباح حتى تملئ علي المكان... وحينها أشعر فعلاً أنني لست من هذا العالم.
أما موعدي في الليل...
فأنا لا أتحرج أن أبوح به هنا
فأنا أعلم أنها لن تمانع في ذلك
ليال طويلة لا أتململ فيها من الوصال...
ليال جميلة... وأجمل ما فيها أنها لا تنتظر اكتمال القمر حتى تتألق
سأحكي ليلة من تلك الليالي ...
قالت لي: هل قصرت معك في شيء ؟
قلت: لا... لماذا !
قالت بحزن: هل أنت غاضب مني ؟
قلت مندهشاً: لا أبداً... لماذا هذه الأسئلة ؟!
قالت: كنت دائماً تشدو شوقاً كلما كنا سوياً ... ومنذ فترة وأنت صامت لا تتكلم ولا تنشد !
نظرت إليها وحدوت:
سألتني في حمانـا ظبيــــة***** أتحب الشوق في عيني صبيــة
قلت لا أعشق حسناً ظاهرا***** أو أرى الحـب عيـونـاً نرجسيــــة
إنمـا أعشـق صـدراً عــامــرا***** يعشق المـوت ويزهـو بالمنيــــة
أدركت سري وقالت ظبيتي***** أنـت لا تعشـق غيــر البندقيــــة
قالت باستحياء: وهل أنت حقاً لا تعشق غير البندقية ؟
ضممتها إلى صدري وأحسست ببرودة رقبتها على خدي وقلت: وهل رأيتي مني غير ذلك ؟
قالت: رأيتك مسروراً ذاك الصباح وفي يدك قناصتك الأخرى
قلت ضاحكاً: كلاكما روسيتان ... فما كذب حدائي
قالت: أتضعني في مقارنة مع قناصة دراجونوف
قلت: أعلم أن الكلاشينكوف أقدم والحصاد به أكثر ولكن.... هي رفيقة النهار وما قصرت معي في شيء
قالت بعصبية: حسناً... انتبه لنوبة الحراسة حتى لا يأخذنا الكلام
قلت وأنا أكتم الضحك: نعم سأفعل
كانت هذه محبوبتي الكلاشينكوف الروسية التي اقضي معها أوقاتاً طويلة وحدنا في الحراسة الليلية
لا أذكر أنني نعست يوماً في الحراسة الليلية
لا أتخيل أن أترك هذه النسمات الباردة للذة أخرى حتى لو كانت لذة النوم والراحة !
فأنا راحتي في نصبي... وسكوني في حركتي ... وأنسي في خلوتي
وما أقول هذا الكلام من لساني... ولم يأخذ قلمي الأمر من عقلي حتى يكتبه، وإنما هذا ما يمليه علي قلبي وجوارحي
أما عقلي فقد رضخ لإرادتهم حتى وإن بدى لا يفهم كل تفاصيل ما يدور حوله !
فليس بالعقل وحده تدرك كل الأمور؛ وإنما هو قلبٌ اعتقد وجوارح صدقت.
..............
أذكر ليلة كنت فوق سطح بناية في مدينة "ديالى" أحرس أحد قادة الجهاد هو وأسرته، كنت في قمة النشاط... والنشوة أيضاً.
ظللت أتنقل بين أركان المبنى الأربعة أتفقد الظلام من حولي وأصبعي على زناد رشاشي متأهب منذ أربع ساعات لم يفتر.
حواسي كلها متيقظة ... فعقلي يرسل لهم إشارات دورية يتأكد فيها من الاستعداد واليقظة.
وبعد ساعتين لم يبقى على الفجر وتسليم الحراسة إلا نصف ساعة...
انسدل جفناي على عيناي...
أرسل عقلي إشارة تنبيه صغيرة إلى الجفون ... انعدمت الرؤية
لا استجابة !
إشارة أخرى... انعدمت الرؤية
لا استجابة !!
حالة تأهب قصوى
تحذيرات إلى القلب... انعدمت الرؤية والعين لا تستجيب
أرسل القلب إشارته بأن سعرات التركيز الآن كلها تغذي الأذن !
وقبل أن يتم الاستفسار عن السبب أرسلت الأذن تقرير عاجل إلى العقل مفاده:
صوت أزيز بعيد لطائرة بدون طيار
صحت بأعلى صوتي على طاقم الحراسة بالأسفل:
أيقظوا الشيخ وأخلوا المبنى حالاً
وانطلقت أعدوا نازلاً ألتهم السلالم ... فتحت باب الشقة التي ينام فيها الأطفال... حملت طفلين على كتفي وسرعان ما دخل زميلي وحمل الطفلين الآخرين ونزلنا مسرعين ... وجدت الشيخ في الطابق الأول وقد أنزل النساء ويهم بالصعود مرة أخرى فلما رآنا تهلل وجهه والتقط من يدي طفله الصغير وعدونا جميعاً خارج المبنى لنركب سيارات الحماية التي كانت في انتظارنا.
انطلقت بنا السيارات بعيداً.
عشرون ثانية تقريباً وسمعنا صوت الإنفجار !
تشبث الطفل بي من الفزع وصرخ باكياً...
نظرت من النافذة الخلفية فإذا بالمنطقة التي كنا فيها وقد استحالت ظهراً من وهج النيران التي تأكل المبنى بأكمله
لا يستطيع لساني إلا أن ينطق بكلمة واحدة
الحمــد للــه
كل من في السيارة كان يتمتم بها وسط بكاء الأطفال
نظر لي الشيخ وبهدوءه المعهود قال:
طائرة بدون طيار؟
أومئت برأسي أن نعم
فقال: خابوا وخسروا... والله إن لنا آجالاً لا يعلمها إلا الله... سنستوفيها وإن كرهوا... وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا.
كلماته حُفرت في ذاكرتي، مع أنها ليست المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الكلام... ولكن أحياناً تصنع المواقف العصيبة من الكلمات المألوفة أقوالاً خالدة ... لها طابع خــاص.
وكانت هذه ليلة أخــرى.